المدونة

تدبر وعمل ومعاني وتفسير ووقفات مع سورة النساء من الآية 7 إلى الآية 11

تدبر وعمل ومعاني وتفسير ووقفات مع سورة النساء من الآية 7 إلى الآية 11

{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًأ مَّفۡرُوضٗا  ٧} [سورة النساء – الآية 7]

كان العرب في الجاهلية من جبروتهم وقسوتهم لا يورثون الضعفاء؛ كالنساء، والصبيان، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء؛ لأنهم بزعمهم أهل الحرب والقتل، والنهب والسلب، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعاً يستوي فيه رجالهم ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم، وقدَّم بين يدي ذلك أمراً مجملاً لتتوطن على ذلك النفوس، فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة.

السعدي: 165.

فيما يلي تبدر ومعاني وتفسير ووقفات مع سورة النساء من الآية 7 الى الآية 11.

وقفات مع سورة النساء
وقفات مع سورة النساء

السؤال: بين الأسلوب القرآني الحكيم في تغيير العادات القبيحة المتأصلة في النفوس؟

{وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًأ مَّفۡرُوضٗا  ٧}

حق المرأة في الإرث ثابت بالكتاب والسنة

كان العرب في الجاهلية – من جبروتهم وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب.
فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على ذلك النفوس. فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة، فقال: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } : أي: قسط وحصة { مِمَّا تَرَكَ } أي: خلف { الْوَالِدَان } أي: الأب والأم { وَالْأَقْرَبُونَ } عموم بعد خصوص { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } فكأنه قيل: هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى: { نَصِيبًا مَفْرُوضًا } : أي: قد قدره العليم الحكيم.

وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك. وأيضا فهاهنا توهم آخر، لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } فتبارك الله أحسن الحاكمين.

{وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا  ٨}

ويؤخذ من المعنى: أن كل مَن له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان؛ ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر. السعدي: 165.

السؤال: إشراك الحاضرين المتطلعة نفوسهم فيه خير للآخذ والمعطي، وضح ذلك.

{وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا  ٨} [سورة النساء – الآية 8]

والأمر بأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، أي: قولاً حسناً -وهو ضد المنكر- تسلية لبعضهم على ما حرموا منه من مال الميت. ابن عاشور: 4/252.

السؤال: لماذا جاء الأمر بالقول المعروف في هذا الموضع من الآية الكريمة؟

وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي: قسمة المواريث { أُولُو الْقُرْبَى } أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: { الْقِسْمَةَ } لأن الوارثين من المقسوم عليهم. { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين } أي: المستحقون من الفقراء. { فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم.

ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين” أو كما قال.

وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم { قَولًا مَعْرُوفًا } يردوهم ردًّا جميلا، بقول حسن غير فاحش ولا قبيح.

{وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا  ٩} [سورة النساء – الآية 9]

أي: فليعدلوا في أمرهم؛ ليقيِّض الله لهم من يعدل في ذريتهم، وليقولوا قولاً عدلاً قاصداً صواباً، وإلا أوشك أن يسلط على ذريتهم من يجور عليهم. البقاعي: 2/218.

السؤال: الجزاء من جنس العمل، وضح ذلك من الآية.

{وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا  ٩} [سورة النساء – الآية 9]

على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره؛ فإن الله تعالى يكافئه بالإحسان

قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها، بدليل قوله: { وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } أي: سدادا، موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم. وقيل: إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } في ولايتهم لغيرهم، أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله، من عدم إهانتهم والقيام عليهم، وإلزامهم لتقوى الله.

{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا  ١٠} [سورة النساء – الآية 10]

حرمة أكل مال اليتامى ظلماً، والوعيد الشديد فيه.

: وَسَيَصلَونَ : سَيُدخَلُونَ.

ولما أمرهم بذلك، زجرهم عن أكل أموال اليتامى، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } أي: بغير حق.

وهذا القيد يخرج به ما تقدم، من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى. فمَنْ أكلها ظلمًا فـ { إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } أي: فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم. { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي: نارًا محرقة متوقدة.

وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.

{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ}

هذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين؛ حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم عليهم. السعدي: 166.

السؤال: كيف تستدل بالآية على أن الله أرحم بعباده من والديهم؟

{مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ}

تقديم الوصية على الدَين ذكراً مع أن الدين مقدم عليها حكما؛ لإظهار كمال العناية بتنفيذها؛ لكونها مظنة للتفريط في أدائها؛ حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض، فكانت تشق عليهم. الألوسي: 4/227.

السؤال: لماذا قدم الوصية على الدين مع أن الدين مقدم حكماً؟

{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ … إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا  ١١} [سورة النساء – الآية 11]

وضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب؛ فقدَّم ما هو بلا واسطة لشدة قربه، وبدأ منه بالنسب لقوته، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به. البقاعي: 2/221.

السؤال: ما دلالة اسمي الله العليم الحكيم في ختام آيات المواريث في سورة النساء؟

{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ}

أرسل رسالة تذكر فيها الآباء والأمهات بأهمية العدل بين الأولاد

{مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ}

بادر اليوم بكتابة وصيتك

{مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ}

ضع اليوم جدولاً زمنيًا لقضاء ديونك -إن وجدت-  قبل أن تتضاعف، واستعن بالله على ذلك.

إِخوَةٌ : اثنَانِ فَأَكثَرُ.

هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري “ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر” – مشتملات على جل أحكام الفرائض، بل على جميعها كما سترى ذلك، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك.

لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، مع إجماع العلماء على ذلك.

فقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أي: أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.

وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم، عليهم. ثم ذكر كيفية إرثهم فقال: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } أي: الأولاد للصلب، والأولاد للابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، إن لم يكن معهم صاحب فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك.

وقد أجمع العلماء على ذلك، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم.

وليس لأولاد الابن شيء، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا، هذا مع اجتماع الذكور والإناث.

وهنا حالتان: انفراد الذكور، وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث، وقد ذكره بقوله: { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أي: بنات صلب أو بنات ابن، ثلاثا فأكثر { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة } أي: بنتا أو بنت ابن { فَلَهَا النِّصْفُ } وهذا إجماع.

بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب أنه يستفاد من قوله: { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان.

وأيضا فقوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } إذا خلَّف ابنًا وبنتًا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين.

وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها – وهو أزيد ضررًا عليها من أختها، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى. وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين: { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } نص في الأختين الثنتين.

فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى.

وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح. بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله: { فَوْقَ اثْنَتَيْن } ؟.

قيل: الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا.

ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين.

ومثل ذلك بنت الابن، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها. وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم.

فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين، وهو خلاف النص. وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد.

ودل قوله: { مِمَّا تَرَكَ } أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته، وحتى الديون التي في الذمم ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: { وَلِأَبَوَيْهِ } أي: أبوه وأمه { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو متعددًا. فأما الأُم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد.

وأما الأب فمع الذكور منهم، لا يستحق أزيد من السدس، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا، والباقي تعصيبًا، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما. { فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأُم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأُم، فدل ذلك على أن الباقي للأب.

وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له، بل يرث تعصيبا المال كله، أو ما أبقت الفروض، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأُم ثلث الباقي والأب الباقي.

وقد دل على ذلك قوله: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب.

فلم تدل الآية على إرث الأُم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال: إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا.

ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين.

ولأنا لو أعطينا الأُم ثلث المال، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس، وهذا لا نظير له، فإن المعهود مساواتها للأب، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم.

{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قوله: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون.

ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال، وهو معدوم، والله أعلم] ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر، ويشكل على ذلك إتيان لفظ “الإخوة” بلفظ الجمع.

وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد، لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين. وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وقال في الإخوة للأُم: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع.

فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا وإخوة، كان للأُم السدس، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث، مع حجب الأب إياهم [إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب] ثم قال تعالى: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي: هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة.

وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة، وإلا فالديون مقدمة عليها، وتكون من رأس المال.

وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة، قال تعالى: { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان.

فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان تت وحال.